عن الشعر المغربي العربي الملحون
ذ. محمد بوعابد (أبو ريم)
( إلى الإخوة والأصدقاء في جمعية الورشان لفن الملحون والتراث المغربي هذه المقالة التعريفية بفن وشعرٍ هُمْ أهله وأصحابه، وعلى رأسهم أعضاء مكتبهم العاملين من أجل الرقي بالملحون وتمكينه من السير في اتجاه المستقبل*).
تتوفر عندنا في المغرب أنماط متعددة يأتي عليها القول الشعري، وذلك بحسب ما يتقنه ويتخذه الشاعرالمغربي وسيلة لسانية. فنظرا لما يتوفر بيننا من لغات ولهجات في أوساطنا الاجتماعية المحلية (العربية المغربية المعروفة باسم الدارجة واللهجة المغربية، وهي المتداولة في عموم البلاد، والأمازيغية بمكوناتها الثلاثة تريفيت/تمازيغت/تشلحيت وهي المتداولة في مناطق الريف والأطلس المتوسط وسوس، ثم الحسانية التي نجدها متداولة في الصحراء المغربية)، وإضافة إلى هذه اللغات المحلية هناك اللغة العربية المعربة، أي المقعدة، والتي لها قدسية خاصة عند أهل المغرب، بحكم كونها لغة القرآن والحديث النبوي الشريف، كما أنها لغة الثقافة العالمة، أي أنها لغة الترقي الاجتماعي، وما كان يعتبر شعرا إلا ما يأتي وفقا لما تأصل بحسب ثقافتها المتوارثة منذ الزمن الجاهلي. وفي الزمن الحديث والمعاصر انفتح المغاربة على لغات أخر كالفرنسية والإسبانية والإنجليزية وغيرها... فشرع البعض منهم يكتبون ويبدعون أشعارهم متوسلين إحدى هذه اللغات الأوروبية... وأعتقد أن الشعرالمعبر عن الشعب المغربي، والمفصح عن تصوراته ورؤيته للعالم وللإنسان هو ما أتى متوسلا إحدى اللغات أو اللهجات الشائعة محليا، ولعل أبرز هذه الأنماط من القول الشعري وأقواها إفصاحا عن الإنسان المغربي والمعبرة ببلاغة عن ثقافته وحضارته وحضوره في التاريخ الإنساني هي تلك الأشعارالتي جاءت متوسلة اللغة العربية المغربية الراقية والماتحة من الثقافة العالمة العربية. ونحن في هذاالصقع المغربي نكتفي عادة بلفظة الملحون، للإشارة إلى هذا النمط من القول الشعري المغربي العربي، أو للشروع في الحديث عَما أطلق عليه أهله العديد من النعوت والاصطلاحات، التي نذكر منها: الكلام، النظام، القريض، الشعر الموهوب... وهو هذا الإبداع المغربي الصميم الذي وسم كذلك بكونه: أدبا، وشعرا، وطربا... والحال أن هذا المسمى عندنا الملحون، والذي تعددت صفاته ونعوته عند أهله: المبدعين لنصوصه، والمنشدين لقصائده طربا، والولوعين بها استماعا وتلذذا، هو كل هذا، فهو أدب بالمعنيين الذين يستفادان من هذه اللفظة/الاصطلاح، إذ هو مشتمل علىالقيم الفكريةوالأخلاقية التي تبنتها ساكنة هذا الصقع المغربي الأقصى، وهي القيم التي تتأسس على العقيدةالإسلامية كما تم تبنيها مع الإيمان بها من قبل المغاربة، أي على ما لخصه عبد الواحد بنعاشر فيبيت من أرجوزته الفقهية الشهيرة: (( متن ابن عاشر المسمى بالمرشد المعين على الضروري منعلوم الدين))، وهو البيت الذي يقول فيه:
*في عقد الأشعري وفقه مالك***وفي طريقة الجنيد السالك*
ومثلما يشتمل الملحون على تلكم القيم الفكرية والأخلاقية ذات الأسس والأبعاد الإسلامية، فإنه يشتمل كذلك على القيم الفنية الجمالية والتذوقية الإبداعية التي تبلورت عبر حقب وعصور التاريخ الأدبي العربي منذ الجاهلية وصدر الإسلام، مرورا بالعصور السياسية الأموية والعباسية وما تلاها، وصولا حتى الحقبة الأندلسية... وهي العصور التي عاشت فيها اللغة والأدب العربيان تطورات وتحولات نتيجة امتداد السيادة العربية الإسلامية في جغرافية العالم القديم وإنشائها لإمارات وممالك وإمبراطوريات، وبسبب من انفتاح وتمازج مختلف الشعوب التي انخرطت في الحضارة العربية الإسلامية، فتفاعلت فيما بينها حضاريا وثقافيا. فمهما تعددت أصولها وتنوعت أجناسها، فإن انصهارها في بوتقة الإسلام عقيدة، واستثمارها للغة العربية وآدابها، قد أقدرها على أن تنجزحضورها المائز وإسهامها المتميز، فتأتي إنتاجياتها العمرانية والفنية إثراء وإضافة نوعية تغتني بها الحضارة العربية الإسلامية. بهذا المعنى نعتبر الشعر الملحون مغربيا أولا، وعربيا ثانيا. فهو شعرمغربي من إنتاج شعراء ينتمون لهذا المدى الحضري، ولهذه الحضارة التي تحقق لها الوجود الأسنى من خلال مدن وحواضر(سجلماسة/مراكش/فاس/مكناس/...) فتجسدت في العمارة المغربية الأندلسية كما في اللباس، والمأكل، والمشرب، والصناعات، والحرف، وأنماط العيش الخاصة التي ما تزال متواصلة البهاء والجمال... وهو شعر عربي لأن اللسان الذي اعتمده مبدعوه، فتوسلوه في صياغة أعمالهم الإبداعية، هو اللسان العربي الجامع بين ما جاء به كتاب الله وحديث رسوله الكريم، مع ماجاءت به من لهجات ولغيات عربية، القبائل العربية التي توافدت على هذه الأصقاع في هذاالغرب الإسلامي، وهي التي استوطنت هذه المجالي المغربية، حين تمازجت مع الساكنة الأمازيغية والإيبيرية. ولعل تسليط أضواء الدراسة والتحليل على ما أبدعه الشعراء المغاربة، المعروفون باسم شيوخ السجية، سيمكن من تجلية وإبراز كيف تعرب اللسان المغربي من خلال تملك أهل هذا الصقع للغة العربية الوافدة عليهم: كتاب عقيدة، ولسان أقوام توافدوا عليهم ثم تساكنوا معهم، واشتركوا رفقتهم في بناء وتشييد حضور حضاري وثقافي متميز في الغرب الإسلامي، تندرج ضمنه تجربة أدبية إبداعية تتصل وتنفصل – في الوقت نفسه - تاريخيا مع التجربة الأدبية الإبداعية العربية مشرقا ومغربا، مثلما ساهموا جميعا في تأسيس وقيام حضور حضاري متميز داخل العدوتين: الجنوبية في المغرب الكبير، والشمالية الأندلسية في شبه الجزيرة الإيبيرية، امتد لقرون ثمانية، وتعايشت فيه أقوام مختلفة الانتماءات الإثنية (البربر، والعرب، والقوط، والزنج) ومتنوعة اللغات والألسنة (أمازيغية وعربية وإسبانية وعبرية) ومتباينة العقائد والديانات (إسلام، مسيحية، يهودية). إذ لا نخال الشعر المغربي العربي الملحون إلا نتاجا تمخضت عنه الحضارة العربية الإسلامية التي تبناها أهل هذه البلاد التي كانت معروفة باسم (الغرب الإسلامي). فمن أسلاف هذا الشعر الملحون هناك القصيدة العمودية وهناك المقامات كشكلين إبداعيين تم إنتاجهما في المشرق، ومن أسلافه كذلك ثمة الموشحات، وثمة الأزجال التي ابتدعها الأندلسيون والمغاربة. وما دام الملحون أدبا بهذين المعنيين، فهو بالضرورة شعر ونثر، ما دام الأدب دائرة كبرى، تتشكل من دائرتين رئيستين، هما: دائرة الشعر ودائرة النثر، الشعر بتنوعاته (الغنائي، والقصصي، والتمثيلي، والتعليمي)، والنثر بأجناسه الرئيسة التي منها السرد أساسا، لكن في العمق يظل الملحون بكليته، مواضيع وأشكالا فنية، شديد الارتباطبالشعر، لأن أشهر نصوصه ذات طبيعة غنائية وجدانية، يلتزم فيها الشعراء الشيوخ النظم وفق مايستوجبه الشعر من أوزان عروضية وقوافي وأرواء...ولكن بعض نصوصه الماتعة والشهيرة أيضاتبدو أشد نثرية نظرا لتخففها من كل تلك اللوازم الشعرية (الوزن العروضي والقوافي مع الأرواء))...ثم لأن الملحون يأتي بصفته شعرا، والشعر يتميز بارتباطه بالموسيقى والإيقاع، فإن الشعر المغربيالملحون يرتبط – بالتالي – بالإنشاد والغناء، ومن ثمة فهو طرب.وبغاية التدليل على ما زعمناه أعلاه، نشير في البدء إلى أن ابن خلدون في ((المقدمة)) توقف عندمسألة اللغة، ونبه إلى أن اللغة العربية كانت قد عاشت تطورات جعلتها تنتقل من (لغة مضر) إلىلغات الأمصار)، وفي هذا التنبيه ما يدفعنا إلى تسجيل أن اللغة العربية المتداولة في مختلف المناطقالمشرقية والمغربية كانت دائما تتشكل من مستويات، نركز من بينها على: لغة الحياة اليومية، ولغةالثقافة، أو ما يمكن تسميته بلغة العلماء وأهل السلطة التي هي لغة الثقافة العالمة في مقابل لغة الحياةاليومية التي هي لغة الشعب. وهو نفس الواقع الذي ما نزال نعيشه حتى الوقت الحالي. مع الانتباه إلىأن لغة الشعب كانت وما تزال تتباين في ما بينها بحسب المناطق، وهذا ما يؤكده العلامة ابن خلدونحين يذكر أن عربية أهل المغرب تختلف عن عربية أهل المشرق، وأنهما معا تختلفان عن عربية أهلالأندلس، وذلك تأكيدا منه للتأثر والتأثير المتبادلين بين مستعملي العربية وما كان قبلها من لغاتمستعملة أو ما تزال تستعمل محليا. والظاهر أن هذا ينطبق بقوة على العربية المغربية المعاصرة،ففيها تتساكن وتتعايش الألسن العربية والأمازيغية والفرنسية والإسبانية وغيرها مما عرفه الناس فيهذا المدى الحضاري عبر التاريخ. وهذا الواقع قابل للتكشف بوضوح حين ندرس نصا شعريا ملحونامما أبدعه الأسلاف، أو مما يبدعه الشيوخ المعاصرون، إذ سيتبدى لنا تفاعل اللسانين العربيوالأمازيغي،لا على المستوى الصواتي والصرفي فحسب، بل وكذلك على المستويات المعجمية،والنحوية التركيبية، والدلالية التداولية. وإذا كانت لغة الحياة هي لغة التواصل، مما يعني أنها لغةوظيفية، قد تتخلها صور فنية، ولكن المتوخى منها هو الإبلاغ، بينما تتميز اللغة الأدبية، وعلى رأسها اللغة الشعرية، بكونها لغة تسعى إلى تحقيق انجدال الإبلاغ بالإمتاع، أي أن الشاعر لا يستعمل اللغة في شعره مثلما يستعملها المتكلم العادي في الحياة اليومية، ولا مثلما يتوسل بها الفيلسوف أو رجل القانون، إنه إنما يستهدف إنجاز ما سماه الشكلانيون، وفي مقدمتهم ياكبسون، بالوظيفة الشعرية.
أجل، قد لا تجتمع في النص الشعري جملة الوظائف التي تحدث عنها هؤلاء، وهي الوظائف الست للتواصل اللغوي: (التواصلية، التعبيرية، التأثيرية، التنبيهية، المرجعية، الميتالغوية، الشعرية)، ولكن قد يحضرها بعضها فقط. غير أن ما يجب الانتباه له والتقصي عنه هو اكتشاف الوظيفة المهيمنة فيذلك الخطاب، لأنه إذا كانت الوظيفة المهيمنة في لغة الحياة اليومية هي التواصل، فإن الوظيفة المهيمنة في الشعر تظل هي ما سمي بالوظيفة الشعرية أو الجمالية. وذلك لأن جميع العناصر التي يتشكل منها (...النص الشعري (العواطف والأحداث والأفكار، واللغة نفسها كقواعد ونظام) تخضع لهذه الوظيفة المهيمنة...) {ص10 أحمد بوزفور: تأبط شعرا. دراسة تحليلية في الشعر الجاهلي. نشرالفنك. 1990}.
من جانب آخر، لا بد من الانتباه إلى أن النص الشعري الملحون، وهو يتصل بالتجربة الشعرية العربية (في تمظهراتها العمودية والتوشيحية والزجلية)، استطاع أن ينجز تبلوره الخاص، وفق شروطه الذاتية والموضوعية، ويحقق تميزه ضمن خريطة الإبداع الشعري العربي، عبر تواصله واتصاله مع هذه التجارب الشعرية ذاتها، سواء على مستوى الموضوعات والمضامين، أم على مستوى الأشكال والقوالب الفنية. فقد تنوعت مضامين الشعر الملحون، وتعددت، إذ نجد منها ما هو متوارث عن الأسلاف، وهو المتمثل في ما عرف قديما باسم الأغراض الشعرية: كالمدح، والهجاء، والفخر،والرثاء، والغزل بنوعيه: العذري العفيف والإباحي الماجن... ومنها ما تم استحداثه شعرا أندلسيا كوصف الطبيعة، أو قام الشعراء بتطويره في الحقب العباسية وما تلاها: كخمريات أبي نواس وعشقيات أهل التصوف... بالإضافة إلى هذا الموروث الشعري مضمونيا، نجد الشعراء الشيوخ أنجزوا عمليات إبداعية ميزت شعرهم مضمونيا، فقد أنسنوا الأشياء (الشمعة، القلة والغراف)، والحيوانات (العاود أي الجواد، والنحلة) وأنطقوها في شعرهم... وأبدعوا نصوصا شعرية قصصية وملحمية وتعليمية، علاوة على الغزير من الأشعار الغنائية... أما على مستوى الأشكال الفنية التي تقدمت من خلالها نصوص الشعر الملحون، فنجملها في ثلاثة، هي:
1) مقطعات شعرية قصيرة في الغالب، وإن كان بالإمكان أن نجد من بينها ما هو طويل إلى حد ما، وتعرف عندهم باسم (العروبيات) أي الرباعيات. وتكون مجهولة المؤلف، ومثالها الأوضح ما أنتجته النساء المغربيات للتعبير عما اختلج في وجدانهن من عواطف. وينظر في هذا الإطار كتاب العلامة محمد الفاسي: رباعيات نساء فاس (العروبيات) الصادر سنة 1971 عن مطبعة محمد الخامس الثقافية والجامعية. ونأخذ منه المثال التالي، مع تعريبه وفق القواعد المعيارية:
يا شاري قفل الهـوى! بـاش اتحله؟=== يا من اشتــرى قفــل الهــوى بماذا ستفتحــه
ها مفتاحـه عنـد مـن لا تـدري بيـه===هــو ذا مفتاحــه عنــد مــن لا تــدري بحالــه
أما قاسـى قيـس قبـل منـك مـا حله===كم قاسى منه قيـس قبلك، وما تمكـن من فتحه
وما هاجـر في الخلاوالشـوم عليـه=== وكم هاجـر في الخــلاء والرمضاء تحيـط به
ما قد شي يخلخله عساك أنت تلويه=== فما استطاع خلخلته، فكيف لك أنت أن تلويه
ونقصر الحديث هاهنا على (العروبي) غير المتصل بقصيدة، أما الذي له اتصال بقصيدة ما فهو عادة جزء أصيل من أجزاء قسم معين في قصيدة، وهذا يكون معروفا قائله، ونمثل له بما جاء عند الشاعرالشيخ الجيلالي امتيرد في قصيدته:" فاطمة شرع الله معاك" حين يخاطبها في القسم الخامس معاتبا:
مـن بـاع احْبيبْ خاطرُه بألـف زلة***باعُه بِيعْالخطاابسومابخيسْافليسْ
وَأنَـا قـَلـْبِي اعْلى اغْـرَامَك مَا وَلى***وانت قلبك كما الحجر جلمود ايبيسْ
أمَبݣـَانِـيابْـليعْـتَـكْ نَعْـدَلْ وَنْـمِـيسْ
2) نصوص شعرية متوسطة الطول، اصطلح أهل الملحون على وسمها بلفظ (السرارب) أو (السرابات)وواحدتها تسمى (سرابة)، ويتناول فيها مبدعها مختلف الموضوعات التي يتم التطرق لها في القصائد.
وتعتبر (السرابة) مقدمة أو مدخلا يهيئ لإنشاد القصيدة، إذ عندما يشرع المنشد في إنشادها يعلنللمتلقين عن طبيعة الموضوع الذي سيتطرق له في القصيدة: عشاقي، توسل، مديح... وتوسم(السرابات) عند أهل هذا الفن بكونها حرامية، إذ لا يعرف مبدعها، مادام لا يوقعها باسمه تصريحا أوتلميحا. ولنمثل لهذا الشكل الشعري الملحون بسرابة تتغنى بفصل الربيع:
فَـصــل الربيــع قبــل والـوقــت ازيــان***وَعْــلامَاتْ الخِـيـــر للـُورَى بَـانُـــوا
جَــاد الزمَــانْ، وَضْـحَـكْ ثَـغْـر السَّلوَانْ ***وَالنـَّكـْــدْاتْـفاجَـىؤزَالـْتْاحْـزَانُــو
وَبْـطـَـايْــحْ الزّْهَــرْ عْـلـَى كـُـلّْ الـْـــوَانْ ***تَـسْــبِي مَــنْ رَاهَا ابْـشـوفتْاعْيانُـو
والأرْض زَيّْ حُــورِيَــة مَــنْ رَضْــوَانْ *** امْــعَــاهَا صَـابْ السّْـرُورْسَـلـْوَانـُـو
نَحْكِــي اعْــرِيسْ وَعْـرُوسَــة فَ الأوانْ ***لـَبْـسَـتْ مَــنْ ثـُـوبْ الدّبَـاجْحِـيجَـانُو
صَبْحَـــتْ بَــارْزَة بَـكـْـسَـــاوِي حَـسَــانْ ***دَامْ الله اجْــمَـــالـْــهَــــا ؤحَــسَــانـُــو
مَهْمَــا انْظـَـرْتْ بَعْيَــانِــي**فَاكـْمَــالْ زِينْهَا وَمْحَاسَنْهَــا بَــاحْ كـُـلّْ مَكـْنـُـونْ
طـَبْـعِـي مـنَ الصّْــبَا فَانِي**وَقـْـتْ الرّْبيعْ تـُوجَدْنِي مَا بِينْ الاحْـرَاجْ مَشطـُونْ
نَـنْشِـي الـْفـَـاظْ وَمْـعَـــانِي** وَهـْلْ الهْوَى يْعرْفونِي مَاهـَرْ مَنْاصْحَـابْ الفنُونْ
واليُومْ هَزنِي مُولايْالغِيوَانْ***وَانْطـَقْ سلطان الربيع بلسانو
ادْوا ؤقالْ لِي عَـوَّلْ يَا إنْسَانْ ***تقطف ورد رياضنا ؤسوسانو
شوفْ الريَاضْ فاحْؤزَهْرَتْ الاغْصَانْ ***كـُلّْ غُصْنْ يَهجِي بريحَتْافنانو
وَطيَــارْ نَـاطـْقـَـة فَ ادْوَاحْ الـْـبَـسْـتَـانْ ***كـُـلّْ عْشِيقْفشى اسْرَارْكتمانو
وَأنَــا اعْـلاشْ مَـا نَــزْهَــى يَــا حَـسَـانْ ***يا من حبك في الاصيارغيوانو
أنَــا فْ عَـــارْ ذَاكْ الـْخَـــدّْ الـْـمَــزْيَـانْ ***غَــدَّر لِـي مَـنْ رَاحْنا ؤكِـيسَـانُو
مهما ارْشَفـْتْكِـيسَـانِي**مَنْ يَدّْ من اهْوِيتْؤقلتْ لهَا هَكـْذا المَظنُونْ
أنْـتْاكـْمَـالْسَـلـْـوانِي**وعلى مْجيك حَلت البشارة يا سْرَاج العيونْ
بِـيـنْ الوتـَـارْ وَالغـَـانِي**والعُـودْ وَالربَابْؤجَـنـْكْؤكَـمَنْـجَةؤقـَانُونْ
نَـزهَاوْا فِي ابْسَاطْ العَـذرَة **ما بِينْ الاحْرَاجْ الخَضـْرَا**فِي سَاعْتْ الرّْضا وَالسْرُورْ
وَنشاهْد الشقِيـقْؤجَـمْــرَة**وَالـْوَرْدْ مِـيـرْ بِينْالوَزْرَا**وَالـْقِـيـقـْـــلَانْ وَالـْخَـــابُــورْ
ونقـُولْ يَا غْــزالِـي زَهرة**مَصَّـابْ فِي اجْمَالكْ نظرَة**وَالـْكـَــاسْ بَـالرّْحِـيــقْإيدُورْ
نَاسَكْ يَا الرِّيـمْ الـْعَذرَة**سَمَّاوْكْ الغْزَالـَة زَهْـرَة**وانا يا صبيغةالضفرا** سَمِّيتكْ الغْـزَالْازْهُــورْ
(3 نصوص شعرية طويلة، تتشكل من أقسام، قد تقل وقد تكثر وتتكاثر. يسمون واحدتها قصيدة، ويجمعونها على قصايد وقصدان، وفي هذا الشكل الشعريعالج الشعراءالشيوخ العديد من الموضوعات: الذاتية، والاجتماعية، والتاريخية، والسياسية، والفنية الجمالية، وقد وجدنا من الشعراء الشيوخ من يكتفي بعدد قليل من الأقسام، على غرار ما دأب عليه الشاعر الشيخ سيد الجيلالي امتيرد، وقد برر عدم تجاوزه خمسة أقسام في الكثير من قصائده برغبته في ألا يمل المستمعون، أما غيره من الشعراء الشيوخ فقد كانوا يطيلون ويكثرون من عدد أقسام قصائدهم، بحيث وصلت عند عبدالقادر العلمي أقسام قصيدته الجمهور أو جمهور الأولياء إلى 42 اثنين وأربعين قسما، متكونة من 435 أربع مائة وخمس وثلاثين بيتا، وأخبرت أن قصيدة ملحمية بعنوان الدقيوسية تعد من هذه المطولات، ونمثل لهذا الشكل المعروف باسم القصيدة بما أبدعه الشاعر الشيخ محمد بن مسايب تحت عنوان:مال حبيبي ماله:
مال حبيبي مـا له*كــان امعـايا كــان
مال حبيبي مــاله*ياناسـي غـضـبـان
مال حبيبي مــاله*لـي مـدة نــرجا له
شوقني في خياله*وقـهــرنـي تعيــان
عَـذبنــي بجْـماله*خدعة على الامان
***
عادانـي عـادانـي*دون اسباب اجفاني
خــلاني خــلاني*في هموم والاحزان
من حقه يرجاني*قامــة غصــن البان
***
عــادانـــي يــا بــابـا*وخدع قوم اصحابة
مثــل طيــور الغابـة*صبيــان وشجـعــان
جابوا النصر صعابة*في حــرب وميـدان
***
كان معايــا بايــت*مولى الزين الفايــت
بجمالــع يتناعــت*عن سايــر الاقــران
منه القمرة غارت*والشمس يا الاخوان
***
يا على مــن شافــه*يتمتـــع باوصافـــه
وخــدوده واشفافــه*والمبســم عــقيــان
فـوق الوجنة حافوا*ورد وبـنـعــمــــان
***
مولى الرقبة الباهي*بها قلـبــــي زاهي
عليــهــا نصـــر الله*بايــات الرحمــان
أعــــــــــــــوذ بالله* من عين الشيطان
***
نسقي كحل اللامح*كاس الخمر الصابح
وشمعنـا يطـــافــح*وربـــاب وعيـــدان
وغــزالي يتمايـــح*قـــدامـــي نشــوان
***
تــم النظــم الفايـق*على حسنه الشارق
والي سابق لاحـق*فـي جبينــي تعيــان
ابن مسايب عاشق*طـالـــب الغـفــران
أما من الناحية العروضية فنجد النصوص الشعرية الملحونة تتم صياغتها إيقاعيا وموسيقيا وفقنماذج اصطلحوا على تسميتها كما يلي:
1ـالمبيت: ويمكن تسميته الشعر العمودي الملحون، وذلك لأنه يقوم ويتأسس على وحدة البيتالشعري، مثلما هو الحال مع القصيدة العمودية التي تتشكل من أبيات، تتكون من مصراعين (صدر وعجز) يسميهما أهل الملحون (فراش وغطا)، لكن البيت الشعري عندهم لا ينحصر فيما سار عليه الشعراء العرب قديما، فهو عندهم قد يكون ثنائيا أو ثلاثيا أو رباعيا أو خماسيا.
2ـ مكسور الجناح: مع هذا الشكل العروضي تطورت قصيدة الشعر الملحون من وحدة البيت،مهمتعددت مكوناته، وانتقلت إلى وحدة المقطع أو القسم كما يصطلح عليه عند أهل الشعرالملحون، وذلك لأن كل قسم من أقسام قصيدة مكسور الجناح يمثل وحدة عروضية ودلالية،تجمع في البدء ما بين أشطر متحررة من وحدة الوزن والقافية والروي وبين أبيات عموديةفي النهاية.
3ـ السوسي: مع هذا الشكل العروضي الذي تفتقت عنه قريحة وسجية الشاعر الشيخ الجيلاليامتيرد، وهو المجدد والمبدع على مستوى المضامين والأشكال، سنجد شاعر الملحون قدبحث عن الشعرية السردية، فجاء بنصوص تتضافر فيها المكونات الشعرية والسردية فيجديلة واحدة ماتعة ومفيدة. إذ يتميز هذا الشكل العروضي بتحرره من الأوزان والقوافي، ممايجعله شعرا نثريا أو نثرا شعريا. فالشاعر الشيخ يشرع في أول قسم (الدخول) من قصيدته،التي على وزن السوسي، بعبارات وجمل لا تخضع لأي وزن، ولا تقيدها أية قافية، ثم ينهيهابلازمة موزونة عموديا (مبيت)، ثم في المقاطع التالية يقوم بقلب ما بدأ به في (الدخول)، إذيعمد إلى الشروع في كل مقطع (قسم) ببيت عمودي، ثم يتبعه بجمل وعبارات منثورة، وكلمقطع (قسم) يمثل وحدة دلالية من المتوالية السردية التي تتشكل منها القصيدة.
ومثلما لاحظنا استمرارية نسغ التجربة الشعرية العربية مضمونيا في الشعر المغربي الملحون، تسعفناهذه الإطلالة على الأشكال العروضية التي يأتي عليها الشعر المغربي الملحون سواء في شكل(العروبي) أو (السرابة) أو (القصيدة)، على تبين حضور التجربة الشعرية العربية، الممتدة منذ الزمنالجاهلي وحتى الزمن الأندلسي، وعلى ملاحظة كيف تبلورت وتطورت عند الشعراء الشيوخ منذ ابنحساين وأوائل شعراء هذا النمط من القول الشعري، مرورا بالمصمودي والمغراوي، بلوغا حتىالمرحلة المسماة عند أهله (صابة الملحون) والتي ظهر فيها المجددون والمبتدعون الكبار كسيدالجيلالي امتيرد وسيد التهامي المدغري والمتصوف الحكيم عبد القادر العلمي وغيرهم. فشكل المبيتيضاهي إلى حد ما الشعر العمودي الذي يعتمد وحدة البيت، وشكل مكسور الجناح يذكرنا بما عرفتهالتجربة الأندلسية حين انتقل شعراؤها من العمودي إلى التوشيح، أما السوسي فيبرز أمامنا استمدادشعراء الملحون الشيوخ واستقاؤهم ما استفادوه من شكل الكتابة المقامتية، إذ في حالة الاطلاع علىنسخة مخطوطة لإحدى قصائد التراجم الواردة على وزن السوسي يمكن التأكد من محاكاة هذا النمطمن القول الشعري الملحون لشكل المقامة، من حيث جمعهما معا بين ما هو شعري وما هو نثري،على مستوى المظهر كما على مستوى الجوهر المضموني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ملحوظة: تم نشر هذه المقالة وذلك يوم الأحد 11/09/2022 في العدد 130 من الجريدة الإلكترونية المدائن بوست
AL MADAYIN Postالصادرة في ألمانيا،. وذلك بغاية تعريف غير المغاربة بهذا النمط من القول الشعري الذيازدانت به الثقافة والإبداع الأدبي والطربي في المغرب. وكانت في البدء مهداة من قبلي إلى الصديق الأديبالدكتورمحمد مصطفى بدوي صاحب الامتياز ورئيس الإدارة والتحري لهذه الجريدة الإلكترونية.
** محمد بن مسايب شاعر شيخ عاش في القرن الثامن عشر الميلادي، توفي سنة 1768، بعدما قضى سنوات منالمنفى في المغرب، وتم دفن جثمانه في مدينة تلمسان بحسب ما سجله محمد بلحلفاوي في كتابه الصادر سنة 1980عن منشورات François Maspero بعنوان: La Poésie arabe maghrébine d expression populaire.وتتوفر في محفوظات شيوخ الملحون المنشدين في وطننا قصائد لهذا الشاعر الشيخ يتغنون بها في مختلف الأغراض